أعمدة

(تأملات ) ..جمال عنقرة المتعافي.. في الليلة الظلماء يفتقد البدر

توفيت لرحمة مولاها الأسبوع الماضي الميرم حرم صغري بنات السلطان علي دينار، وعندما استشهد السلطان عام ١٩١٦م كانت الميرم حرم لا تزال في بطن أمها، فهربت أمها من الفاشر إلى ديار أهلها في المالحة، وهي من الزغاوة، فولدتها هناك، وتكتمت عليها إلى أن هدات معركة الإنجليز ضد أبناء السلطان المجاهد الشهيد.
تجمعني صلات عدة مع أهلنا الدينارية، أولها المصاهرة العليا، إذ كان السلطان علي دينار قد تزوج عمتنا الأميرة النعمة ابنة جدنا الأمير النور عنقرة، ومعلوم أن كثيرين من قادة المهدية وأمرائها قد تزوجوا من بنات الأمير عنقرة، ولقد افتتح ذلك الخليفة عبد الله التعايشي، ولما طلب السلطان علي دينار مصاهرة الأمير النور عنقرة، سأل الأمير أبناءه عن رأيهم في هذا الزواج، فقالوا له “عايز ياخد تار ابوه” وكان الأمير النور عنقرة قد قتل السلطان إبراهيم قرض في معاركه ضدهم، فقال لهم “لو عايز ياخد تار ابوه من مرأة الياخدو” فعقد له علي أحب بناته إلى نفسه، وأرسلها له في الفاشر، فأحسن السلطان استقبالها، وبني لها قصرا خاصا هو المعروف باسم “خير خنقها” وقصة الإسم أنه لما علم الناس بوصول ابنة الأمير النور عنقرة زوجة للسلطان علي دينار، توافد الناس علي القصر يحملون الهدايا المختلفة، فلما كثرت الهدايا، قال لهم السلطان “بيت ده خلاص خير خنقها، ودوا محل تاني”
صلاتي الأخري مع الدينارية أكثر عمقا، واطول عمرا، حيث أني ولدت وترعرت ونشأت في حي أديب في حاضرة شرق كردفان مدينة أم روابة عروس النيم، ويعتبر فريق الدينارية جزءا من حي أديب، ويفصل بين حوش جدي لوالدتي الشيخ جبارة عمر، وفريق الدينارية شارع الأربعين فقط، ومعلوم أنه بعد جلاء أبناء السلطان علي دينار من الفاشر إلى نهر النيل بعد استشهاد السلطان لم يطب لهم المقام هناك، فقرر الإنجليز ترحيلهم من التميراب إلى أم روابة، ولقد وقع الإختيار علي أم روابة لأنها مدينة مصنوعة، فبعد وصول السكة حديد إلى الأبيض عام ١٩١٢م، ومرورها بهذه المدينة، نقلت السلطات المركز من التيارة إلى أم روابة، وانتقلت معه التجار والصناعة، واجبروا تجار منطقة شركيلا علي الرحيل إلى أم روابة، والذين تباطأوا حرقوا متاجرهم، فلم يجدوا خيارا آخر سوي الرحيل، وكان أكثرهم من غير أهل المنطقة الأصليين، وكان هذا الوضع يناسب أبناء السلطان، فلا يشعرون بغربة، وهكذا نشأوا ضمن المكونات الأصيلة للمدينة، وصاروا من اركانها واقطابها، ومن أبناء السلطان الذين جاءوا إلى أم روابة الأمراء زكريا، وحمزة، وعبد الرحمن، وكرم الدين، ومحمد الفضل، ومن بناته الميارم زهراء أم بوسة، وزينب، وأم بشائر، ونفيسة، وعزة، وامامة، وتزوج كبار الضباط من بناته، حيث تزوج الأميرلاي أحمد عبد الوهاب بحيري الميرم أم بشائر، والدة الدكتور مامون بحيري، وتزوج الأميرلاي سعد عمر خضر الميرم نفيسة والدة الوزير أحمد سعد عمر وإخوانه عبد العزيز، وعبد الرحيم، وأخواتهم، وتزوج الأميرلاي فتح الله ندا حفيدته الميرم تبينة “كرنتينة” ابنة الميرم زهراء، وانجب منها أبناءه الفاتح ونصر الدين وعلي. أبناء وبنات واحفاد وحفيدات السلطان، عاشوا بقيم الملوك والامراء، هممهم عالية، ونفوسهم ابية، كرماء شرفاء.
خبر وفاة الميرم حرم أرسلته لي الميرم الدكتورة هند مامون بحيري، حرم الدكتور عبد الحليم المتعافي، والميرم هند عرفتها أول مرة قبل أربعة عقود من الزمان هي كانت طالبة في كلية الطب جامعة الخرطوم، وناشطة في الإتجاه الإسلامي، وكنت وقتها مسؤولا عن المناشط الطلابية في أمانة الطلاب بالحركة الإسلامية، وكنت في ذاك اليوم اجتمعت لأول مرة مع قيادات العمل الإسلامي من طلاب جامعة الخرطوم من كل الكليات، وكان الإجتماع في قاعة 102 بكلية الآداب لشرح رؤيتي لعمل المناشط في ذاك العام، وكنت قد قدمت رؤية مختلفة تماما عن الذي ألفوه قبل ذلك، فكانوا يركزون علي العمل المقفول، والمحصور في العضوية، وكانت خطتي مفتوحة تماما، وتعتمد علي وسائل غير تقليدية، وحضر معي الإجتماع الأخ إبراهيم عبد الحفيظ ممثلا لأمين الطلاب الدكتور إبراهيم أحمد عمر، والشهيد موسي سيد أحمد مسؤول الجامعات، والشهيد عبيد ختم أمير الجامعة، والشهيد محمد عبد الرحمن عجول رئيس الإتحاد، وكان الإجتماع ساخنا، وكان أكثر الطلاب مشاركة علي محمود عبد الرسول وزير المالية الأسبق، ومروة جكنون، وهند مامون بحيري، وبعد نهاية الإجتماع دفعت لي هند بورقة مطبقة، وجدتها مكتوب عليها “أغفر لي، قلت خاتمه عاجبو” وكنت ولا زلت ألبس خاتما، ولعلي كنت استخدم يدي في الشرح، فقلت في نفسي إنها أخلاق الميارم، وكنت قد عرفت أنها ابنة الدكتور مامون بحيري، وأعلم أن الدكتور والدته الميرم أم بشائر، فرايت في هند صورة الميارم الجاسرات الشامخات لا سيما الميرم أمامة، والميرم هانم ابنة أخيها الأمير حمزة.
وعلي ذكر الميرم هند تذكرت زوجها أخي الدكتور عبد الحليم إسماعيل المتعافي، وصلتي بالمتعافي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، منذ أن كان طالبا في كلية الطب جامعة الخرطوم، وكنا طلابا في مصر، وكان يجمعنا العمل الصيفي، ولم تنقطع صلتي وتواصلي معه أبدا طوال هذه المدة، علي كافة المستويات والاصعدة العامة والخاصة، وعبد الحليم رجل عبقري، وهذا ما دعاني لذكره وتذكره الآن، وكنت قد قرأت قبل قليل أن نائب رئيس مجلس السيادة الفريق حميدتي قد ذكر أن حل مشكلة الإقتصاد في السودان تكمن في الزراعة، وهذا ما لم يقله المتعافي فقط، قبل سنوات عدة، ولكنه وضع له خطة محكمة، وسعي فيها سعيا جادا عندما كان وزيرا للزراعة، ولكنهم تامروا عليه وهزموه، وانتصر أصحاب المصالح الخاصة. وكان المتعافي قد قدم خطة واضحة لإدخال القطن المحور للسودان، وأثبت أن عائد الفدان المزروع قطن يمكن به شراء قمح تنتجه ثلاثة افدنة، وكان تركيزه الأول علي مشروع الجزيرة، للعائد المادي أولا، ولثقافة المزارعين ثانيا، ثم للاستفادة من البنية التحتية والصناعات التحويلية المرتبطة بالقطن مثل الغزل والنسيج، هذا فضلا عن مناطق الزراعة المطرية، ولكن الذين تضررت مصالحهم من زراعة القطن المحور استخدموا كل الوسائل، المشروعة، وغير المشروعة، وغير المشروعة أكثر من المشروعة، حتى هزموا المتعافي وهزموا مشروعه للنهضة الزراعية في السودان، والحمد لله أن بعض رجال الأعمال الوطنيين طوروا هذه الفكرة، وتمددوا فيها، وتعتبر الشركة الإفريقية الزراعية للسيد وجدي ميرغنى رائدة ذلك، وكذلك شركات الحاج معاوية البرير، وعلمت أيضا أن السيد هشام صالح عبد الرحمن يعقوب، قد حقق نجاحات باهرة في مجال القطن لا سيما في منطقة جنوب كردفان.
التجربة الثانية الرائدة والرائعة للدكتور المتعافي، تجربته في ولاية الخرطوم، ومثلما كنت قريبا ومتابعا لتجربة الزراعة بحكم خلفيتي الزراعية، كنت أيضا قريبا من تجربة ولاية الخرطوم، وأذكر عندما اختار المتعافي أخي الدكتور الفاتح عز الدين معتمدا لمحلية أم درمان، أوصاني علي الفاتح خيرا، وطلب مني معاونته في الدخول لأم درمان من أبوابها، ومع أن الفاتح لا يحتاج إلى توصية، فمنذ أن عرفته قبل أكثر من أربعين عاما عندما قدمت لهم محاضرة عن الثورة الإيرانية في مدني، وكان وقتها طالبا في المرحلة الثانوية، لم تنقطع صلتي واتصالي معه، حتى السجن لم يبعدنا عن بعض، فعندما تكونت لجنة لأسر المعتقلين، وطلبوا من كل أسرة تقديم أحد افرادها ممثلا لها، قدمتني أسرة الفاتح عز الدين لتمثيلها، وبصمات الفاتح عز الدين في أم درمان ليست فقط في مجال المنشآت والمباني، ولكن بصماته الإجتماعية كانت أوضح وابقي، ولم يكتف الفاتح بزيارة رموز أم درمان جميعا، ولكنه زار حتى عامتهم، ولعل أهلنا سكان شارع كرري في المسالمة يشهدون علي ذلك، فلقد دخل الشارع بيتا بيتا، ثم اجلسهم أكثر من مرة مع الوالي المتعافي، وكل ذلك كان في إطار المخطط الهيكلي لولاية الخرطوم، الذي وضعه المتعافي، ليضع به الخرطوم في مصاف المدن العالمية، وبدأ في ذلك تنفيذا جادا، وأذكر في أول إحتفال لاخينا الحبيب الدكتور عبد الرحمن الخضر بعد تعيينه واليا للخرطوم خلفا للدكتور المتعافي، فعندما تم تكريمه علي الإنجازات التي تحققت أهدي التكريم للدكتور المتعافي لأنه من صنع تلك الإنجازات، ولأن عبد الرحمن رجل حقاني، ولا تزال أعظم مشروعات في ولاية الخرطوم، هي التي انجزها المتعافي، أو بدأت في عهده، ومنها علي سبيل المثال لا الحصر، كوبري سوبا، وكبري الحلفايا، وكبري المك نمر، وكبري سوبا، وشارع النيل أم درمان، وبفضل سياسات المتعافي من بعد فضل الله تعالي صارت الدواجن في الخرطوم أرخص من أي قرية أو مدينة أخري، وهو صاحب مشروع الخرطوم ولاية زراعية مع صديقنا وزميلنا شيخ العرب المهندس صديق محمد علي الشيخ، وما احوجنا في مثل هذه الأيام إلى عقلية وعبقرية المتعافي، وقديما قالوا “في الليلة الظلماء يفتقد البدر”

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى