*في العلاقات المدنية العسكرية.. وقضايا الانتقال الديمقراطي*بقلم : عبدالله خيرالله مساعد
أثارت العلاقة بين المؤسسة العسكرية والقوى المدنية، عقب سقوط نظام البشير وطى صفحته في 11 أبريل 2019، جدلا كثيفا، إرتبط بالكيفية التي يجب أن تدار بها فترة ما بعد السقوط، وانقسمت الرؤى حيال ذلك الجدل، بين مناصرة لإدارتها وفق عملية هجين، تجمع القوات المسلحة والمكونات المدنية من قوى ثورة ديسمبر، وبين أخرى معارضة لمبدأ الشراكة، ومطالبة بإدارة مدنية كاملة.
وبعد حوار شائك بين المكونين المدني والعسكري، توسط فيه الاتحاد الأفريقي، حسم الجدل لصالح إقرار مقاربة قائمة على شراكة عسكرية مدنية، أحكمت رابطتها الدستورية والقانونية، كما هو معلوم.، الوثيقة الدستورية الموقعة في 17 اغسطس من العام 2019 م، والتي مهرها طرفا الحوار: المجلس العسكري الانتقالي وقتها، ممثلا للمؤسسة العسكرية، وقوى إعلان الحرية والتغيير ممثلة للقوى المدنية.
إستمرت الشراكة الثنائية، تلك، في إدارة الفترة الانتقالية، حتى تاريخ دخول حركات الكفاح المسلح ضمن المعادلة السياسية بالبلاد، عقب توقيع اتفاق جوبا لسلام السودان في إكتوبر 2020م، والذي أقر مشاركة حركات الكفاح المسلح، ممثلة في فصائل الجبهة الثورية، في مؤسسات وهياكل الفترة الانتقالية، وفق نسب معلومة حددتها اتفاقية جوبا.
في الفترة ما بين العام 2019م، تاريخ توقيع الوثيقة الدستورية, ولحظتنا الراهنة، جرت مياة كثيرة تحت الجسور، وأعترت مسار الشراكة، العديد من الاحداث، وشابها غير قليل من العثرات، كان أبرزها على الإطلاق. قرارات 25 إكتوبر 2021م، التي جمدت الوثيقة الدستورية وعلقت الشراكة مع قوى اعلان الحرية والتغيير، وأفضت إلى تداعيات أدت لاتساع رقعة الخلافات بين العسكريين وشركائهم السابقين في قوى إعلان الحرية والتغيير، فشلت في رتقها العديد من الوساطات والمبادرات.
تجدد الجدل بشأن العلاقات العسكرية المدنية، واشتد أواره، لاسيما، علاقة الجيش بالسياسة، بين يدي الحراك السياسي الراهن، الذي يهدف إلى إحداث توافق وطني، عبر عملية حوار شامل، يضم الفاعلين في مشهد البلاد السياسي والاجتماعي، والعسكري، للتفاكر حول الكيفية المثلى التي من خلالها، يمكن إدارة الفترة الانتقالية، وصولا للتحول الديمقراطي المنشود.
لم يكن، بطبيعة الحال، جدل العلاقات العسكرية المدنية، إبان فترات التحولات الديمقراطية، وليد اليوم أو حتى الأمس القريب، كما لم يكن حكرا على السودان، بل جدل كوني وممتد منذ سنوات طويلة. جدل تعددت بشأنه الأدبيات، كما تفرعت حوله الدراسات.
وتكتسب العلاقات المدنية العسكرية، أهمية خاصة في هذا التوقيت لصلتها الوثيقة بمشروع الانتقال السياسي في السودان وتأثيرها على عملية التحول الديمقراطي المأمولة، وبالتالي على مجريات الحوار الوطني السوداني الجاري.
سنحاول في هذه المساحة استعراض الملامح الرئيسية للدراسات والأدبيات التي تناولت موضوع العلاقات العسكرية المدنية وقضايا الديمقراطية. بالتركيز على اتجاهين رئيسيين، بهدف إثراء النقاشات حول العلاقة العسكرية المدنية ضمن عملية التوافق الوطني المنشود، وبلورة رؤية سودانية واقعية بشأن هذا الموضوع الجدلي، نأمل ان تساهم في تحقيق إنتقال ديمقراطي آمن وسلس.
فقد مرت دراسات وأدبيات العلاقات العسكرية المدنية وتأثيراتها في عملية الديمقراطية، بصورة عامة بمرحلتين رئيسيتين هما: المرحلة الكلاسيكية أو التقليدية، الداعية إلى حياد المؤسسة العسكرية، والتي ظهرت ملامحها النظرية في العام ١٩٥٧م، عندما أصدر عالم السياسة الأمريكي “صمويل هنتغتون” كتابه “الجند والدولة.. نظرية وسياسات العلاقات المدنية العسكرية” ودار محور الكتاب، حول كيفية فرض الهيمنة المدنية على المؤسسة العسكرية، بإعتبارها ضرورية لاستمرار الديمقراطية.
يؤمن هذا الاتجاه، بمبدأ حياد المؤسسة العسكرية في المجال السياسي، والتزام وظيفتها بالدفاع عن الوطن، لتصبح إحدى أدوات الدولة التي يتعين عليها الالتزام بتنفيذ أوامر السلطة المدنية،.
ونظرا للتاريخ المبكر للكتاب، لم ينشغل كاتبه كثيرا بعملية تطبيق مقولاته، إلا على نطاق دول العالم المتقدم.
اما الاتجاه الثاني، أو الاتجاه الحديث، الذي واكب الطفرة الكبيرة في عدد النظم العسكرية حول العالم، خاصة في الدول حديثة الاستقلال منذ أواسط الستينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي، فقد
انتقد الاتجاه التقليدي الذي دشنه “هنتغتون” وقام بمراجعته، مؤكدا أهمية دور المؤسسة العسكرية فى ترسيخ العملية الديمقراطية، لاسيما، في ظل أوقات الحروب والصراعات، معترفا بصعوبة الالتزام بالسيادة المدنية. من أنصار هذا الاتجاه “جوتريدج”، و “جانويتز”، و “براون”.
فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية تم وضع حد للدور التقليدي للمؤسسة العسكرية كأداة للدفاع أو للتوسع الإقليمي للدولة، وتعزز دورها الداخلي، وأصبح يُنظر إليها بوصفها جماعة الضغط الأكثر فعالية وقدرة على لعب دور إيجابي في سبيل إحراز التقدم الاجتماعي والسياسي والحفاظ على النظام والاستقرار السياسي، بما يمكن أن يفضي إلى تحالف يتولي فيه المدنيون الحكم بناءا على دعم من العسكريين أو الجيش الذى يظل فاعلا سياسيا، وربما يتصرف بشكل غير رسمى كحكم بين الجماعات السياسية المتنافسة.
وأكد “جانويتز” أن مبدأ الفصل بين المجالين العسكري والمدني يحتاج إلى المراجعة، وأن نظرية التوافق أو الاتفاق الديمقراطي تقتضي ضم العسكريين، كذلك أوضح أنه في ظل تطور مفهوم الاحتراف العسكري حدث نوع من الاندماج بين العسكريين والخبراء المدنيين؛ مما ولد نوعا جديدا من الاحتراف العسكري، ووسع من نطاق الدور التقليدي للعسكريين.
كما ظهرت نظرية “التوافق”، لـ “ربيكا شيف” واتفق معها “موريس جانويتز” والتي ترى وجود نوع من التكامل بين المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأخرى في المجتمع، ووفقا لها، فإنه ليس الفصل التام بين المؤسسات العسكرية والمدنية هو العامل الرئيس الذي يقلل من احتمالات تدخل العسكريين في شؤون الحكم، وترى انه كلما زاد التوافق بين النخبة السياسية المدنية والعسكرية والمجتمع، بشأن عملية صنع القرار السياسي قل التدخل. وتؤكد هذه النظرية أهمية التعاون بين العسكريين والمؤسسات السياسية والمجتمع ككل.
ويؤكد “موريس جانووتيز” ، على حدوث تطور فى النظرية التقليدية التى تقوم على الحياد السياسى للجيش، مشيرا إلى أن نموذج العلاقات المدنية العسكرية لابد وأن يؤكد على ضرورة مشاركة العسكريين فى وضع أسس النظام الديموقراطي. وحسب وجهة نظره؛ أنه من الصعوبة النظر إلى العسكريين كمحايدين، حيث أن ذلك يعني أنهم مرتزقة وليسوا مواطنين، ولذلك لابد وأن يكون لهم دور سياسي.
تلا ذلك ظهور نظرية مكملة لنظرية التوافق، حاولت تحديد العلاقات المدنية العسكرية بشكل أكثر تنظيمًا، وهي نظرية “تقاسم المسؤوليات” ل”دوجلاس بلاند” الذي تناول العلاقات المدنية العسكرية على أساس المسؤولية المشتركة؛ بحيث تكون السلطة المدنية مسؤولة عن بعض جوانب سياسة الدفاع الوطني ومسيطرة على القوات المسلحة، في حين يتولى القادة العسكريون مسؤوليات أخرى، ويتم ذلك عبر تقاسم المسؤوليات، والتوافق في آراء السلطة المدنية والعسكرية داخل نظام يتمتع بالمرونة والديناميكية، بما يحقق مبادئ الديمقراطية.
ويرى “دوجلاس ل. بلاند”، انه لا تعارض بين إقتسام المسؤولية والسيطرة المدنية، حيث أن إقتسام السلطة بين المدنيين والعسكريين يعني أنهما يتشاركان القرارات في قضايا مثل القضايا الاستراتيجية.
وقضايا تنظيمية تتعلق بالقوات المسلحة والمجتمع.
إن الافتراضات التي تقوم عليها نظرية التوافق واقتسام السلطة تنطبق على الدول الديمقراطية والدول حديثة التحول نحو الديمقراطية، حيث للعسكريين دورهم في صنع القرارات المتعلقة بالقضايا الدفاعية وكيفية استخدام وتوظيف القوات المسلحة في ظل السيطرة المدنية.
إن العلاقات المدنية العسكرية في ظل ظروف السودان الراهنة تحتاج إلى دراسات عميقة من الخبراء ذوي الصلة تؤسس توازن وانسجام بين القوى المدنية والمؤسسة العسكرية، يحقق التحول الديمقراطي ويحافظ على وحدة السودان الذي ما تزال تعاني فيه الدولة من الضعف الهيكلي، وتشوب أوضاعه إنقسامات اجتماعية وهشاشة أمنية ومصاعب اقتصادية.
إن العلاقات العسكرية المدنية لا يجدي معها إطلاق الأحكام الجزافية والعجولة، المبنية على العواطف.