أعمدة

د. عبدالمجيد عبدالرحمن ابوماجدة صهيل الخيل :  تمدد العنصرية وتنامي خطاب الكراهية في السودان       

“1”  ظل السودان الوطن الكبير المترامي الاطراف منذ تكوينه الاول مغنماً وغنيمةً مستباحةً للدول العظمى في عهد الاستعمار الاول . إنّ السودان القديم عبارة عن ممالك وسلطنات فكان قبل الميلاد دولة “علوة والمعرة” على الشريط النيلي والبحر الاحمر وكانت القوافل التجارية لهذه الدولة قبل الميلاد تصل الي مملكة “اكسوم” في الحبشة ؛ كما انّ هناك ممالك وسلطنات قامت في مناطق متفرقة من السودان كمملكة الفونج والعبدلاب وبعض السلطنات المتفرقة في جبال النوبة  السلطان علي الميراوي وسلطنة المسبعات والسلطان على دينار بدارفور حتى العام 1916م . يعتبر قاطني دولة السودان عبارة عن مجموعات قبائليية واثنيات عشائرية تقطن في اجزائه المتفرقة في الشرق والغرب والجنوب والشمال . صحيح أنّ هناك مجموعات وهي ليست بالكثيرة تعتبرون نفسها هم المؤسسون الاوائل للسودان ؛ كما توجد قبائل واثنيات اغلبها اتت الي السودان وافدة عبر الهجرات التأريحية الانسانية المعروفة او بسبب ظروف واحوال اخرى كالنزاعات والحروب والكوارث الطبيعية .  اما القاسم المشترك بين هذا الكم “المتناسل” من هذه القبائل فهو ارض الوطن المسمى سابقاً ارض “الاثنين مليون” ميل مربع .                  “2”   إنّ للمستعمر دوراً كبيراً ومهماً في بقاء هذه القبائل والعشائر ان تعيش هكذا حتى يُسهل له ترويضها وتدجينها ومن ثمّ السيطرة عليها عبر وكلائه من نفس القبائل ومخابراته ومخبريه السريين .  ظلت حال الوطن السودان وقبائله في توهان دائم بين البقاء في كنف القبيلة والعشيرة او الخروج منها الي عباءة تأسيس كيان وطني شامل و جامع تذوب فيه كل هذه العناصر القبلية لتنصهر في بوتقة الوطنية الحقة ؛ لكن دائماً وابداً قبل ما تبدأ هذه الفكرة “المُلهمة” تخبوء مجدداً وينطفيء وميضها ؛ وذلك بسبب عدم وجود التفكير الجمعي المستنير وخلق اوضاع وبيئة مهيأة لتشكيل الهوية السودانية الموحدة .                     “3” إنّ الغزو الاوربي الاول واكتشاف قارة افريقيا ومجاهيلها قبل الحرب العالمية الاولى مروراً بكل الغزوات والتجريدات والحملات التأديبية التي دخلت ارض السودان عن طريق النيل قبالة دولة “مصر” كان همها الاول والاخير هو الحصول على المواد والموارد الخام التي تحتاجها البلاد الاوربية كما انها جاءت لدراسة حالة السكان الذين يقطنون هذه البقاع المجهولة والاستفادة منهم ومن قوة شكيمتهم الجسمانية وقوة التحمل للعمل في المناجم واستخدامهم كمقاتليين اشداء في اي حروب في تلك الفترات . إنّ دخول التركية السابقة الي ارض السودان وسيطرتها على اجزاء واسعة من البلاد كان من اجل البحث والتنقيب عن المعادن النفيسة خاصة “الذهب” واكتشاف معالم جديدة والاستفادة من بسط النفوذ والقوة في افريقيا غرب النيل والسودان كان الهدف الرئيسي لهذه الحملات  .                    “4”  إنّ خطاب الكراهية والعنصرية في السودان بدأ يظهر جلياً منذ القرن التاسع عشر الميلادي عندما اسس الامام المهدي الدولة الوطنية الاولى التي جمع فيها اغلب قيادات واعيان قبائل السودان ونداءاته المتكررة لهم والتى شقت آفاق السودان وهجرته غرباً بحثاً عن الرجال للانضمام إليه وقبول دعوته وذلك للتبشير باحياء قيم الدين والاصطفاف من اجل طرد المستعمر من ارض الوطن ؛ فوجدت نداءاته استجابات واسعة من قيادات هذه القبائل وشبابها واستطفوا حول مشروعه “الاستراتيجي” فكانت الوحدة والتلاحم الحق في سبيل الانتصار للوطن وطرد المستعمر الدخيل . لم يعيش الامام المهدي طويلاً فانتقل الى رحاب الله وخلفه الخليفة عبدالله التعايشي في إدارة شؤون الدولة السودانية فبدأ خطاب العنصرية والكراهية يطفح على السطح ؛ فمنذ تلك الحقبة التأريحية ظهر خطاب الكراهية ينمو وتتمدد العنصرية على امداد الوطن السودان . إنّ خطاب الكراهية والعنصرية في السودان اصبح مرادفاً ومصاحباً لكل الحقب الوطنية التي مرت على السودان بداية بخروج المستعمر وتاسيس اول حكومة وطنية في السودان .                    “5”  استمر الحال وخطاب الكراهية موجوداً ومتوارثاً في خطب واحاديث الساسة السودانيين وكانت العنصرية تتمدد هي الاخرى حتى في تفاصيل الحياة اليومية في السودان فاصبحت النكاد والسُخرية بين قبائل السودان جزءاً من ثقافاتهم حتى في مؤسساتهم ونواديهم ومجتمعاتهم وفي افراحهم واتراحهم . إنّ انفصال اقليم جنوب السودان في العام 2011م عن السودان لعبت فيه العنصرية وخطاب الكراهية والتعالي الاثني والقبلي والثقافي والديني ادواراً مهمةً حتى زادت من الاحتقان ؛ وكانت الحروب بين طرفي الوطن وما تسببته من دمار وازهاق للارواح هي من ادت الي عمل تسوية ؛ بموجب ذلك جاءت اتفاقية نيفاشا للسلام في العام 2005م وبموجبها انفصل اقليم جنوب السودان وذهب وفي غصة بعض السودانيين الذين يؤمنون بالوحدة وتذوييب الفوارق القبلية والمجتمعة مرارة شديدة في حلوقهم ؛ وما زالوا متأثرون بذلك . لم تتغير الحال عقب ذهاب الجنوب بحاله وكل العالم شاهد فيه قتالاً مريراً بين المكونات السكانية فيه وكان “بأسهم” بينهم شديد .                  “6”  عقب انفصال الجنوب لا زالت العنصرية وخطاب الكراهية باقيان في المجتمعات السودانية المختلفة وبدأت تنتقل العدوى الي اقليم دارفور بحيث شهدت بداية الالفية الثالثة قتالاً عنيفاً وموتاً بين الفصائل المتمردة والقوات الحكومية وبعض القبائل ؛ ويبدو انّ كان لخطاب الكراهية والعنصرية البغيضة حظوظاً كبيرةً من الحضور حتى في ساحات الحروب والوغى . يبدو انّ نظام الحركة الاسلامية بحزبها المؤتمر الوطني الذي حكم السودان ثلاثين عاماً كانا لديهما اليد الطولى في تنامي خطاب العنصرية والكراهية في السودان ؛ ولم تسلم اي من المكونات القبلية من ذلك . عقب سقوط نظام المؤتمر الوطني بثورة شعبية سودانية باذخة كانت تحمل شعارات ” الحرية ؛ السلام ؛ العدالة” التف حولها كل اطياف الشعب السوداني وهتفوا امام القيادة العامة ضد البشير ” يا عسكري يا مغرور كل البلد دارفور” عندما حاول البشير ونظامه استخدام الخطاب العنصري في حربه على دارفور .                    “7”   في الاونة الاخيرة بدأ انتشار العنصرية وخطاب الكراهية واضحاً حتى في النزاعات والحروب اصبح الموت على اساس العرق او الجنس القبلي ؛ تابع الكثير من المراقبين القتال في غرب دارفور ومناطق اخرى من جنوب وشمال دارفور ؛ وانتقلت العدوى بعدها الي شرق السودان بحيث دار قتالاً عنيفاً هناك بين المكونات القبلية فكانت النتيجة إزهاق للارواح كل ذلك بسبب تنامي خطاب الكراهية والعنصرية في البلاد وعدم وجود وازع ورادع يمنع ذلك . إنّ الصراع الاثني والقبلي بسبب تنامي خطاب الكراهية والعنصرية كانت كلفته باهظة في ولاية غرب كردفان في الفترة الاخيرة ؛ بحيث شهدت الولاية احداثاً كادت ان تعصف بجميع المكونات القبلية وامتدت هذه الاحداث في بعض مناطق ولاية غرب كردفان لكن سرعان ما تم احتوائها .                   “8”   إنّ اندلاع القتال الاخير باقليم النيل الازرق بين مكوناته هو الاعنف والاشرس وكان البُعد الاثني والقبلي فيه طاغياً ازهقت فيه مائات الارواح البريئة ؛ فمهما كانت الاسباب والمسببات من هذا الاقتتال والاصطفاف القبلي والاثني ؛ فانّ ذلك يمكن ان يكون سبباُ لوضع التشريعات القانونية واللوائح الادارية التي تنظم حياة هذه القبائل التي كانت في السابق ؛ عاشت و لفترات طويلة في وئام وانسجام  .                  “9” المراقبين للاوضاع السياسية والاجتماعية في السودان يشيرون الي أنّ تنامي خطاب العنصرية وتمدد الكراهية يعود الي عدم وجود أيّ مادة في الدساتير السودانية تجرم ذلك ؛ ويقولون : وبالتالي تجد مسؤولين على هرم الدولة السودانية يتحدثون بلغة فيها نوعاً من التعالي   القبلي والاثني واضحاً جداً حتى في لقاءاتهم  الخاصة . إنّ خطاب الكراهية والعنصرية موجوداً في الدولة السودانية حتى على مستوى رجال الإدارات الأهلية .                   “10” يجب على اي حكومة قادمة سن القوانين الرادعة التي تجرم استخدام خطاب الكراهية والعنصرية في البلاد وتحارب ذلك بكل السبل والوسائل القانونية المتاحة ؛ حتى يستطيع الشعب السوداني ان يتجاوز هذه المرحلة الحرجة التي ينتشر فيها خطاب الكراهية وتتمدد فيه العنصرية بشكل مخيف ؛ ويظهر ذلك جلياً حتى في الحروب والصراعات .    Abdulmajeedaboh@gmail.com  كاتب وباحث سوداني

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى