أعمدة

*مصطفى ابوالعزائم* يكتب في (*بُعْدٌ .. و .. مسَافَة*) ..*المرحوم غير غلطان ….!

وأما المرحوم هنا فهو الجنيه السّوداني ، وهي تسمية أطلقها تماسيح سوق العملات عليه مع التردي الإقتصادي الذي تشهده بلادنا الآن ، وهو ذات الجنيه الذي عاش عِزّاً وتنعّم في الخزائن ورق بنكنوت ، وذهباً ، ومساحات أراضٍ وبيوت ومزارع ، وأموال منقولة وثابتة ، لكنه منذ أن جاءنا خبراء الإقتصاد العالمي ، بعد الثورة ،وهم الذين يمثلون البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، وكل واجهات الغرب الإقتصادية ، ومنذ أن بدأوا في تطبيق سياساتهم التي أفقرت البلاد مع كل مواردها العظيمة ، بسوء التخطيط وسوء الإدارة ، منذ ذلك الوقت قبل ثلاث سنوات ، بدأ الجنيه السّوداني يفقد عافيته تدريجياً ، إلى أن وصل الأمر إلى حدود لم تكن مُتخّيلة من قبل ، فتخطى الدولار أيام حكومة حمدوك الأولى حدود المائة جنيه ثم بدأ الإنحدار فالإنفجار ، وظلت قيمة عملتنا الوطنية تتدهور كل يوم من حضيض إلى حضيض ، حتى إن سعر الدولار بلغ الثمانمئة جنيه قبل نهاية يوم الخميس ، ولا نعرف كيف سيكون الحال في الأيام المقبلة .
لا نعرف الحكمة في عدم تعيين خبراء حقيقيين في منصب وزير مالية ، ولا نعرف الحكمة في عدم تعيين رئيس للحكومة من الخبراء المختصين ، الملمّين بالسّياسات والنتائج ، ونرى أن إضاعة الفرصة غُصّة ، كما نعرف إنه إذا رسخ العلم ، صلح العمل .
صعود الدولار الأمريكي أمام عملتنا الوطنية ، صعود غير منطقي ، رغم أننا يمكن أن نبرّر إنخفاض قيمة العملة السّودانيّة ، بسبب التجاذبات السياسية ، وبسبب عدم وجود سياسة إقتصادية واضحة ، وبسبب عدم وضع موازنة عامة ، لكن أن يصل الأمر إلى هذا الحد فإن ذلك يثير أكثر من علامة استفهام .. فالواقع يقول بأن هذا التدهور المريع والسريع أمام العملات الأجنبية غير منطقي ، والدولار نفسه الآن بعد قرارات الرئيس الروسي بوتين القاضية بعدم بيع الغاز إلى الدول غير الصديقة إلّا بالروبل ، أصبح في محك خطير ، وكل المؤشرات تقول بأن هناك مارد جديد سيحدث إنقلاباً في تعاملات السوق العالمية للنفط والغاز الطبيعي أو الغاز المسيل .
لابد لنا من أن نربط بين زيارات البرهان وحميدتي إلى كل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية الشقيقتين ، وبين تدفقات مالية مؤكّدة في شكل ودائع دولارية مليارية ، وهو ما سوف ينفخ الروح في علمتنا الوطنية ، ونحن لا ولن ننسى مواقف الإمارات العربية والسعودية الداعمة للسّودان قبل وبعد الثورة ، ويكفي أن أودعت الدولتان عقب الثورة مباشرة ملايين الدولارات كودائع في البنك المركزي ، لكن تصريحات بعض من كانوا يمثلون الحكومة وقتذاك ، أوقفت ذلك الدعم ، وهو ما يمكن أن نصفه بالرعونة السّياسيّة ، وذلك بسبب إنتظار الغرب وعونه الذي لم يحدث حتى الآن .
ولابد لنا أيضا أن نربط بين القرارات الإقتصادية الأخيرة ، ممثلة في تعويم الجنيه ، ورفع الدعم عن السلع الأساسية والخدمات ، دون تغطية من الذهب أو النقد الأجنبي ، ودون إنتاج أو صادر يغطي جانبا من إحتياجات البلاد الضرورية ، والمعروف إن التعويم سيقفز بالأسعار إلى أعلى مستوى لها ، على المدى القصير ، لكن المعروف أيضا أن الأسعار ستتراجع وتستقر بعد ذلك في مدىً أقرب مما يتخيله المضاربون بالعملة اليوم ، ولن يندم إلّا المضاربون .
كان من المتوقع أن تلجأ الحكومة إلى إعتماد سياسة الدعم المادي بديلا لدعم السلع ، وكان عليها ألّا تتجه إلى رفع الدعم كليا ، وكان هذا ممكناً ، لكن ماذا نقول مع الذين يتخذون القرارت دون معرفة او دراسة أو استشارة حتى .
لا نرى إن أزمة الجنيه ستطول ، ولابد من إدخال عملتنا الوطنية إلى غرفة إنعاش عاجلة ، فالذي يحدث الآن عمره قصير جداً ، إذ لا منطق في هذا التدهور ، لكنها المضاربات واستغلال الأزمات ، ومن يقومون بهذا الفعل الآن ليسوا أكثر من تجار حرب ، وما داموا قد أعلنوا الحرب على المجتمع والدولة ، عليهم أن يتحملوا نتائجها .
لكن هذا لا يعني إن الحكومة غير مسؤولة ، فلابد من ترشيد الإنفاق العام ، وتوجيه العائدات والفائض إلى الخدمات العامة من صحة وتعليم ومياه وكهرباء بدل أن يحدث العكس ، ومن المهم أيضا الإسراع في قيام مفوضية محاربة الفساد وتفعيل أدائها ، ولابد من الحوكمة ، وإصلاح بيئة الإستثمار ، تعالوا نفعل هذا وسوف نرى النتائج ، خاصةً مع مواقف الأشقاء والأصدقاء ، وهم الأقرب إلينا من غيرهم الذين لا يقدمون عوناً إلّا بمقابل ، ويصبح الجنيه عملة جديدة تواجه الأزمات ، نأمل ذلك .

Email : sagraljidyan@gmail.com

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى