أعمدة

د. يوسف الناير يكتب: تفكير القلوب(٤) .. دروس التاريخ ٢

لا يزال البحث مستمرا حول دروس وعبر التاريخ وذلك لتفسير مادته وتحليلها للاستفادة منها في معالجة مشكلات الحاضر لتشكيل المستقبل وفق آمال الأمة . وقد قال الفلاسفة قديما: إن التاريخ كمرآة العربة تنظر إلى الخلف لتنطلق إلى الأمام. هذا التعريف المختصر ينطوي على قيمة علمية كبيرة تشمل جميع المعارف وكيفية توظيفها لتحقيق بناء المجتمع وصياغة أهدافه وغاياته على النحو الذي يقود الأمة كلها باتجاه النهضة والتقدم. والمتأمل لحضارة الأمم والشعوب التي وظفت تاريخها بصورة مثالية، فإن أول ما يلاحظه في هذا الإطار أن الأمم والشعوب استخدمت الحوار كوسيلة للتغلب على المشكلات والأزمات التي تعوق عملية التنمية والتقدم، والناظر والمتأمل في مهددات قوة المجتمعات وتماسكها عبر التاريخ ، يجد أن نزاعات وصراعات المكون السكاني من العوامل والأسباب الأساسية في تدمير الإمكانات والطاقات . ويعد الحوار فعالا ومفيدا ويقود إلى نتائج إيجابية في كافة القضايا بل يساعد الحوار الأطراف في إنتاج مسارات وخيارات كثيرة ويوسع نطاق المعالجات وفي أحايين كثيرة يلعب الحوار دورا مؤثرا في خفض الطموح السالب والسلوك المنحرف وتوجيه التفكير بصورة أفضل حتى في حالات التآمر.
أنظر إلى حوار أبناء سيدنا يعقوب في معالجة أزمتهم وخلافهم مع أبيهم عندما زعموا أن أباهم حاد عن الطريق، والحقيقة خلاف ذلك حيث إن سيدنا يعقوب نبي والنبي تفكيره وكلامه وحي من عند الله. والشاهد هنا أن أبناء يعقوب ظنوا أن حل الأزمة يكمن في التخلص من أخيهم يوسف، ورغم عزمهم على تنفيذ خطتهم ولكن استخدموا الحوار للوصول إلى هدفهم وأثناء نقاشهم وحوارهم برزت ثلاثة مسارات :
– أقتلوا يوسف.
– اطرحوه أرضا.
– ألقوه في غيابت الجب.
تأمل في الخيارات الثلاثة بالرغم من أنها تدور حول ارتكاب الجريمة إلا أن المسار الثالث يحقق لأصحاب الفكرة السالبة هدفهم ، ويضمن ليوسف العيش بعيدا عنهم . ويلاحظ أن المسارات تمثل ثلاثة أطراف :
الأول متشدد يرى حل الأزمة في التخلص من يوسف وإزالته من الحياة تماما.
الثاني أقل تشددا ولكن خياره ينطوي على احتمالات كثيرة من بينها الهلاك لأن الجغرافية المحيطة بهم تكثر فيها الذئاب المفترسة كما أن هناك فرصة للنجاة ولكنها قد تبدو ضعيفة جدا.
أما المسار الثالث فينطوي على حكمة بالغة حيث إن صاحب هذا الخيار كان يفكر في تحقيق أهداف أخوته ولكن دون أن يلحق ضررا بيوسف لأنه كان يدرك أن المسافرين الذين يقصدون المدينة يمرون بغيابت الجب(بئر) لحاجتهم إلى الماء ، كما كان يعلم أيضا أن يوسف سينجو ويذهب إلى مكان آمن حتى يقضي الله أمر كان مفعولا.
فإذا كان الحوار نافعا ومفيدا للذين يفكرون في ارتكاب الجرائم فكيف تكون نتائج الحوار عندما يستخدم للإصلاح؟
فالمشكلة السودانية منذ الاستقلال حتى اليوم ، تواجه صعوبات حقيقية وأن الساسة السودانيون تنقصهم الحكمة والأمانة في التعاطي مع الأزمة السودانية لأن مداخلهم للحوار ذاتية شخصية أو مناطقية فالتكتلات القديمة والحديثة تسيطر عليها هذه النفسية الأمر يجعل أطراف الأزمة غير قادرين على المضي قدما في اتجاه التسوية السياسية، كما أن عدم الأمانة في قراءة التاريخ السوداني وتوظيف مادته في الحل ،من العوامل المؤثرة في تصلب المواقف وتعنت أطراف النزاع .
فالمتأمل في الصراعات والنزعات على المستوى الإقليمي والعالمي يلاحظ أنها تدور حول اللغة والعرق، فاللغة تعني الثقافة، والعرق يعني القبيلة والذين يقفون خلف هذه الصراعات يحاولون عبثا الهيمنة والسيطرة على السلطة والثروة وإقصاء بعض المكونات والثقافات، إما لدوافع استعلائية أو لدوافع ظلم وجشع وأنانية ، وفي الحالتين ينهزم المجتمع ولا يستطيع التغلب على مشكلاته ويفشل في كل محاولاته الرامية إلى الحلول ، ولم يكتب لأطراف الصراعات النجاح في كل أنحاء المعمورة إلا للذين حفظوا حقوق مكونات مجتمعاتهم بوصفها جزء من الموروث وفي ذلك ترسيخ لمعاني العدل لأن قيمة العدل هي حجر الزواية لأي تطور وتقدم . والذي يتدبر آية سورة الروم يدرك أن ما تشهده بعض دول العالم اليوم من مواجهات وصراعات هي نتائج طبيعية لتصادم سلوك البشرية مع معاني هذه الآية( ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين).
ولأن اختلاف اللغات والألوان آية ربانية في الأرض فإن أية محاولة للصراع والتصادم معها يعني أننا نسبح عكس التيار ونرمي بأنفسنا في التهلكة .
لذا لاخيار للأطراف السودانية إلا الحوار بصدق وأمانة مع مراعاة وحفظ حقوق كافة المكونات والتعامل مع هذا التنوع وفق مضمون الآية الكريمة التي ذكرناها آنفا، وإلا ستظل أي جهود تبذل كمن يحرث في البحر .
دكتور/يوسف محمد علي الناير
الجمعة ٢٠٢٢/١١/١٨م

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى