الصادق الرزيقي يكتب في ( أما قبل).. حمدوك و حكومته .. في الغابرين

عشية خروج المواكب الرافضة للراهن السياسي الحالي ، والمُطالبة بالتغيير و كنس الحكومة الحالية و غثائها ، و إدارك ما يمكن إدراكه ، و إنقاذ ما يمكن أن يستنقذه من بين براثن و فكيّ السلطة الحالية و مخالبها ، جاء خطاب رئيس الوزراء .. باهتاً … سمجاً ..أثبت فيه قدرته الفذة علي تضييع فرصه ، ومقدرته الفائقة في حمل حقائب الرياح ، كبهلوان لا يضحك ظهر في خطابه موغلا في التكرار الدائري لعباراته المعلبة و مفرداته المستهلكة و أفكاره البوار ، لم يفتح الله عليه بفكرة جديدة بارقة ، أو إلهام ساحر يتوالد منه الأمل و ينداح بصيصه و ينعقد عليه رجاء المنتظرين و ما أكثرهم .
لكن السيد حمدوك و مستشاريه ممن كتبوا له الخطاب الوداعي الراعش ، أوقعوه في فج سياسي و فخ مسن ، فهم أرادوا له أن يظهر في لبوس المنقذ المتزن المحايد المتخير منزلة بين المنزلتين في الصراع الحالي ، و حاكوا له جبة الوهم التي من يراها سيصيح حتماً ” أنظروا إلي ملكنا العريان ” فأطل علينا عارياً من كل فكرة ناصعة ، حاسر الرأس و الذهن و الفؤاد من كل رؤية سليمة الأضلاع تقود إلي مخرج قريب ، ألقو هكذا في مهب الكلام و يم المحاولة الاخيرة البائسة ، تخبط هائماً كالذي يتخبطه الشيطان من المس ، و هو يلهث وراء موقف ضبابي بأرجل عجفاء متهالكة ، و بصر أعشي ، و عين عمشاء .. فلا عرِف مخرجاً يقود الناس إليه ، و لا خرج مستحيياً و غادر موقعه غير مأسوف عليه .
مشكلة بعض المتوهمين يظنون أن لرئيس الوزراء حظوة خارجية تمنع عنه الركل خارج الحلبة السياسية ، و يظنون أن لديه قدرات خارقة يستطيع من خلالها إنتشال البلاد من الوهاد إلي السماك البعيد ، و ويعلو بها من الثري لترتاد الثريا ، فالمرء مخبوء تحت لسانه ، لم نجد له خلال لكل هذه الفترة الزمنية من عمر الانتقال ، موقفاً و حالة واحدة تدل علي أن البلاد تسير في الإتجاه الصحيح ، فقط يغرقنا في يقظته الحالمة ويحدثنا و كأن البلاد التي أمسك دفة المركب فيها قد بلغت الضفة الأخري و (عبرت) إلي الساحل المخضر ، و إنتصرت علي الفقر و الفاقة و التخلف التنموي و نقص الخدمات والفساد والمحسوبية و إستغلال النفوذ والكرامة المفقودة و العدالة الغائبة و الأمن المستحيل .
مأزق الرجل و حكومته و من يقف معها و داعميها ، أنهم لا يدركون المدي الذي وصل إليه الخلاف السياسي الحاد بين مكونات السلطة ، و لا يفهمون حجم التيار الجارف من عامة الشعب ،لقد لفظ الشعب حمدوك وحكومته و أزاحهم من التطلعات و الآمال، وأخرجهم من رغباته في صناعة مستقبل جديد ، لو كان السيد حمدوك رجل سياسة و يعرف فنون القيادة و الحكم ، لتغير خطابه السياسي و لتبدلت مفرداته و وتحسن منه الأداء ، حتي عندما يخاطب شعباً كالذي يترأس حكومةً بين ظهرانيه ، لقد بلغت الأزمة شأوها ، و لن يُطفيء نارها حديث المنابر البارد الممجوج ، و لا أكاذيب السياسة البلاستيكية الخادعة ،التي يجيدها بلا منافسٍ ينازعه و ضريبٍ يماثله .
فالتغيير بات حتمياً و واجباً ، و فريضة سياسية ليست من بين النوافل والسنن ، لا يجدي اليوم الرقص علي كل الحبال ، أو تغطية الوجه بإصبع الإبهام ، حسب علمنا القليل جداً ، أن الرجل إحترف التآكل و الزوال منذ أن بدأ يداهن هذا الطرف و يغازل ذاك ، و هو يعلم في قرارة نفسه كيف ستسير الأمور في البلاد ، وأخيراً وصلته رسائل واضحة و توجيهات صارمة من عرابيه في الخارج خاصة الأمم المتحدة ، أبلغوه فيها بالموضع الذي عليه أن يضع أقدامه فيه ، و ما هو الخيار الأفضل و المتاح حالياً إن كان هو نفسه يريد بلداً يحكمه ..لكن السيد حمدوك يختار الاسوأ دائماً ثم يواصل حفر قبره السياسي بطريقة دراماتيكية ساذجة ، مختزلاً تجربته في صورة راهب و قديس نوراني يتعبد في محراب السياسة ، بينما هو في الحقيقة يرقص مزهواً في ملهي الأبالسة ..!
إذا كان سيلاً عريضاً من جماهير الشعب السوداني ، ستخرج ضد حكومته و حلفائه من الأحزاب القزمية المتحكمة في السلطة ستملأ غداً شوارع الخرطوم ، فليعلم هو و أترابه من أصحاب الخيبات السياسية و التنفيذية ، أن مثل هذه الجماهير و التيارات الشعبية التي ستخرج غاضبة، لن يقنعها السراب الذي تدفق من لسانه في خطابه الذابل ، و لن تهزها معزوفة الوهم الكذوب التي ظل يعزفها برداءة أمام جمهور حاذق …
الحقيقة الوحيدة .. أن الازمة السياسية بأنوائها العاوية و تلاطم موجها ، ستعصف بالموجود الخزفي و فقاقيعه الطائرة بينهم حمدوك وحكومته ، فإن إستطاع في فرصته الأخيرة و بقية زمنه الضائع أن يمد يديه للعسكر ليعصموه من الغرق و يركب معهم فقد ينجو ، وإن لم يستطع … تكون فرصته ومن معه لبناء مستقبل سياسي قد تبددت للأبد ، و بلا أدني شك سيكون هو حكومته و حاضنته السياسية و مستشاريه يوم غدٍ …في الغابرين ..!