أعمدة

(تأملات) ..جمال عنقرة .. قرارات ٢٥ أكتوبر.. فرصة للجميع يجب ألا تضيع

لست في مقام الدفاع أو الهجوم علي القرارات التي أصدرها القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، ولا أعتقد أن المقام يحتاج إلى ذلك، ولكن الذي نحتاجه حقيقة هو إعادة النظر في طريقة تفكيرنا وتعاطينا مع كل القضايا السياسية والوطنية، ليست قرارات ٢٥ أكتوبر وحدها، ولكن كل القرارات والمحطات التي مررنا بها طوال تاريخنا الطويل، علي الأقل منذ استقلال السودان منتصف خمسينات القرن الماضي، وتحضرني في هذه اللحظة مقولة للرئيس الرواندي بول جيجامي ظلت عالقة بذهني منذ أن سمعتها منه أول مرة وهو يتحدث عن أسباب نجاح وعبور الشعب الرواندي، فقال السيد كيجامي أنهم لم ينجحوا لأنهم شعب متميز، ولا لأن رئيسهم عبقري، ولكنهم نجحوا لأنهم طووا صفحة الماضي، وصوبوا نظرهم نحو المستقبل، وعملوا جميعا يدا واحدة من أجل غد أفضل، وهذا ما افتقدناه طوال تاريخنا السياسي والوطني، وللأسف الشديد افتقدناه أيضا بعد ثورة ديسمبر المجيدة.
ولو أن لقرارات الخامس والعشرين من أكتوبر فضل واحد، أنها جددت لنا الفرصة مرة أخري للنظر إلى الأمام، والعمل يدا واحدة من أجل مستقبل أفضل، ونأسف مرة أخري أن أكثر مكونات المشهد السياسي السوداني، إن لم تكن كلها، لم تنظر إلى هذه الفرصة بهذا المنظار، الذي يمكن أن يجعل من تلك القرارات فرصة تاريخية لمعالجة كل أخطاء وعلل الماضي القريب والبعيد، ويستوي في ذلك العسكريون والمدنيون، المؤيدون للقرارات والمعارضون لها، الإسلاميون والعلمانيون، القوي التقليدية والحديثة معا علي حد سواء.
ان ثورة ديسمبر بدأت الخروج عن المسار منذ أن استاثر باسمها بعض أدعيائها، وانعزلوا بها عن جماهيرها الحقيقية، واوصدوا الأبواب علي كل الحوارات بشانها، وزاد الطين بلة أن الذين دخلوا غرف الحوار دخلوها بدفع ودعم خارجي، وليس بإرادة شعب أو جماهير وطنية، وأن مفاتيح الغرفة صارت بأيدي هذه القوي الخارجية، وزاد من سوء الحال أن القوي الخارجية التي صار بيدها القرار، بعضها عدو صريح، وبعضها لا نجد له صفة إيجابية سوي حسن النية، وأفضل ما يوصفون به أنهم لا يدركون حقيقة الأزمة السودانية، والاسوأ أنهم يمكن قيادتهم، وتوجيههم في غير صالح قضيتنا، وفي غير صالح قضايانا المشتركة أيضا.
قرارات ٢٥ أكتوبر جعلت تصحيح كل ذلك ممكنا، وأول ما يجب تحريره وتصويبه هو مفهوم المؤسسة العسكرية، وموقعها في خارطة القضية السودانية، ومن أخطاء الماضي أن المؤسسة العسكرية خرجت للشان العام وكأنها حزب مثل بقية الأحزاب السياسية، وجلست تفاوض القوي السياسية وكأنها واحدة منهم، بينما الموقف السليم أنها حامية الحمي والثورة، وهي الضامن الوحيد للانتقال الأمن والسليم للسلطة، ولعل السبب في ذلك أن الذين تولوا الحديث باسم المؤسسة العسكرية لم يكونوا علي دراية كافية بطبيعة المؤسسة، ولا بطبيعة المرحلة، وعلاج ذلك لن يتحقق إلا بسحب القرار العسكري من اوصيائه واعادته إلى داخل المؤسسة، ولا بد من توسيع دائرة الشوري حوله داخل المؤسسة وفق التراتبية العسكرية المعروفة، والمعهودة، وأهل الشأن أولي وأدري بتعريف ذلك وتفصيله.
الفضل الآخر لقرارات ٢٥ أكتوبر أنها حررت الثورة من القبضة التي كانت تهيمن عليها بادعاء الحضانة، وهي مجموعة الأربعة التي كانت تسيطر علي مركزية الحرية والتغيير، وكانت السبب الأساسي في كثير مما قعد بمسيرة الثورة، وقعد بالحكومة والدولة معا، وهنا لا بد من تجديد وتأكيد التحذير من أن الخروج من الحاضنة القديمة يجب ألا يتبعه الوقوع في أحضان حاضنة جديدة، ونقول ذلك لأننا نلحظ المساعي الرامية إلى خلق حاضنة بديلة، وأقول بغير تردد، ورغم قربي من كثير من مكونات الحاضنة المنشودة، علي عكس الحاضنة المؤودة، لكنني أقول أن المتشودة أكثر سوءا من المؤودة، ذلك أن المؤودة – علي الأقل – بها شئ من رائحة الثورة، فلا خيار متاح سوي العودة إلى أحضان الشعب الدافئة الآمنة.
فضل آخر لقرارات ٢٥ أكتوبر أنها بدأت في تحرير القرار الوطني من الهيمنة الخارجية الدولية والإقليمية، ويكفي في ذلك التهديد الواضح والقوي للسيد رئيس مجلس السيادة، القائد العام للقوات المسلحة سعادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان للمبعوث الأممي لعدم تجاوز حدود تفويضه، حتى لا يتم إعلانه شخصا غير مرغوب فيه، وفعلت الخارجية السودانية ذات الشئ مع السفراء الذين تجاوزا حدود السفارة واللياقة، واللباقة والذوق والأدب، وهذا أمر مهم يجب التأكيد عليه، لا سيما وأن المبعوثين الأممين والإقليميين، وبعض السفراء المتمددين، لم يفقدوا الأمل بعد في السيطرة علي القرار السوداني، وبعضهم “يتخن جلده” وبعضهم يعمل “أذن الحامل طرشاء” ولكن “وراهم والزمن طويل” والردة مستحيلة.
ومع تأمين كل ذلك، وتنفيذه، والالتزام به، فلن يؤتي أكله ما لم تعيد القوي السياسية السودانية كلها النظر في طريقة تفكيرها، وتصوب نظرها إلى الأمام، ولا تلتفت إلى الوراء مطلقا، وقديما قال أهلنا “كترة التلفت بتوقع” ونحن لا نريد أن نقع مرة أخري، ونخشي إن وقعنا ألا تتاح لنا فرصة أخري للنهوض، وأكثر ما لا يعجبني هذه الأيام حالة الفرح والنشوي التي تسيطر علي كثيرين من منسوبي النظام السابق الذين يتوهمون أن هزيمة “أربعة طويلة” انتصارا لهم، ويظنون أن عودة بعض منسوبيهم للعمل بموجب قرارات قضائية عادلة، هي بداية عودة لنظامهم الذي سقط، قبل أن تسقطه اللجنة الأمنية في الحادي عشر من شهر اكتوبر عام ٢٠١٩م، ولا يعجبني أيضا توهم منسوبي لجنة إزالة التمكين أن إطلاق سراحهم بالضمان مجاملة، يعني عودتهم مرة أخري، وكأنهم لم يدركوا بعد أنهم كانوا السبب الأول في هزيمة الثورة، بانشغالهم بمعارك خاصة جانبية عن معارك الوطن الكبري.
إن قرارات ٢٥ أكتوبر اتاحت فرصة تاريخية للجميع لفتح صفحة جديدة ناصعة بيضاء، لكتابة أسطر من نور في تاريخ السودان الحديث، تتوحد فيها إرادة الشعب، ويعمل الناس جميعا صفا واحدا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، من أجل غد زاهر ومشرق، يسعنا جميعا بإذن الله تعالي

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى